عاجل
الإثنين 15 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

حكاية بولاق التكرور.. حي الأفارقة بالقاهرة 

نساء تكروريات - ارشيفية
نساء تكروريات - ارشيفية

صارت القاهرة قبلة القادمين إلى مصر من كل بقاع القارة الإفريقية خلال التاريخ الوسيط، خاصة بعد انتقال الخلافة الإسلامية إليها (648-923ه) فى زمن المماليك، وازدادت أهمية المدينة وذاع صيتُها في بلاد العالم الإسلامي بفضل عدة عوامل منحتها تلك الخُصوصية، منها توقف الحجاج الأفارقة إلى الحجاز بالقاهرة انتظارًا لـ”موكب الحج" المصري، وأيضاً بفضل "الأزهر الشريف" الذي أضحى منارة العلم والعلماء في العالم الإسلامي منذ تأسيسه سنة 359ه.



وكان أهلُ “التكرور” ويُقصد بهم سكان غرب إفريقيا من أكثر شعوب الممالك الإفريقية في جنوب الصحراء التي أقبلت على القدوم للقاهرة في للحج أو طلبًا للعلم، ومن ثم استقرت أعدادٌ كبيرةٌ منهم بالقاهرة وصار لهم حيٌ حمل اسمهم، وهو "حي التكرور" أو "بولاق التكرور" الذي صار بعد ذلك "بولاق الدكرور".

وتسمية "التكرور" أطلقتها جماعاتٌ من "صِنهاجة"، وهي قبيلةٌ بربريةٌ استقرت في شمال إفريقيا والمغرب قبل الإسلام ثم هاجرت جماعاتٌ منهم إلى بلاد "التكرور" بعد الإسلام، وكان اسمُ "التكرور" يُشير بدايةً إلى تجمعاتٍ قروية في إحدى الإمارات الواقعة في أقصى شمال غرب إفريقيا، وغير بعيدٍ عن مَصبِ "نهر السنغال"، وهو ثاني أكبر الأنهارٍ في مناطق غرب إفريقيا بعد "نهر النَيجر".

وتذكر المصادرُ أن أول ملك تكروري اعتنق الإسلام كان يُدعى "وارجابي بن رابيس" وهو في ذات الوقت أقدم الملوك في تاريخ بلاد غرب إفريقيا الذين أسلموا قبل قدوم "المُرابطين" (448-541ه)، ويذكر القلقشندي (ت: 821ه) وغيره من المؤرخين بلاد غرب إفريقيا باسم "بلاد التكرور" وكان يُطلق بصفةٍ عامة على كلٍ من "مملكة مالي" (596-874ه) و"مملكة صُنغي" (777-1000ه) وأيضاً "بلاد الكانم" أيام المماليك، وهو الأمرُ الذي يتضحُ بشكلٍ جلي من خلال روايات أكثر مؤرخي عصر المماليك القدامى وحتى المتأخرين منهم. 

 

ومعلوم أن لفظ "التكرور" يُشير لأحد الأقاليم في غرب إفريقيا، وموضعه الآن ضمن أراضي "السنغال"، ثم ذاع هذا الاسم (أي التكرور) بعد ذلك بفضل التجار العرب، وصار يُطلق على كل البلاد الواقعة في غرب إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وحتى تلك الموجودة في بلاد البسودان الأوسط (تشاد حاليًا)، مثل "بلاد الكانم".

 

وقد أورد ذات الاسم "جلال الدين السيوطي" (ت: 911هـ)، وهو يُعتبر من مُتأخري مؤرخي عصر المماليك، لما تحدث عن "سلطان صُنغي" في أيامه، وهو السلطان "أسكيا محمد" (899-935ه) الذي دعاه باسم "سلطان التكرور"، ولما زار "السيوطي" بلاد السودان الغربي دعاها أيضًا بذات الاسم، حيث يذكر في ترجمته: "وسافرتُ بحمدِ الله تعالى إلى بلاد الشام، والحجاز، واليمن، والهند، والمغرب، وبلاد التكرور.."، بل إن مؤرخي "السودان الغربي" يستخدمون هذه التسمية في مؤلفاتهم، ومن ذلك المؤرخ "ابن الطالب البرتلي" (ت: 1219ه) في كتابه المعروف باسم: "فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور"، ورغم أن أكثر العلماء والفقهاء من غرب إفريقيا الذين ترجم لهم "البرتلي" كانوا من "مملكة صُنغي"، وعلى هذا فلم يكن اسم "التكرور" ذائعًا في بلاد المشرق الإسلامي فحسب بل كان معروفًا في بلاد السودان الغربي ذاتها. 

 

وتذكر المصادرُ من ناحيةٍ أُخرى أن القوافل التجارية كانت تُسافر إلى مدينة "تكرور" عبر دروب "الصحراء الكبرى" قادمةً من أسواق بلاد المغرب، وكانوا يحملون معهم العديد من البضائع والسلع لهذه البلاد، بينما كانوا يحملون من بلاد "التكرور" التبر (الذهب)، وهو ما يُشير إلى ارتباط هذه البلاد بالذهب أيضًا، بينما يذكر "القلقشندي" (ت: 821ه) عن مدينة "تكرور" باعتبارها حاضرة الحكام في هذه البلاد: "وقاعدته مدينة تكرور.. وهي مدينةٌ على النيل (يقصُد: نهر النيجر) على القرب من ضفافه أكبر من مدينة سلا من بلاد المغرب..". 

 

وشهدت العلاقاتُ بين حكام مصر وبلاد التكرور وملوكهم وشعوبهم تطورًا لافتًا إبان "العصر الإسلامي"، ويُعتبر عصرُ المماليك (648-923ه) من أكثر العصور الإسلامية ازدهارًا في مصر وكذلك في الشام، حيث انتقلت "الخلافة العباسية" في ذلك الوقت للقاهرة أيام السلطان "الظاهر بيبرس" (658– 676ه)، وسبب ذلك سقوط بغداد عاصمة الخلافة (العباسية) على أيدي المغول (التتار) سنة 656ه، وصارت القاهرة أيام المماليك الحاضرة الكُبرى للإسلام".

 

ولعل كلام ابن خلدون (ت: 808ه) لما وصل القاهرة للمرة الأولى أكبر دليل على ذلك: "فانتقلت إلى القاهرة أول ذي القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك". كما لعب الأزهر دورًا مهمًا في تأكيد مكانة القاهرة في ذلك الوقت، حيث صارت منارة العلم والعلماء.

 

ومن ثم كان العلماء وطلبة العلم يحرصون على القدوم إلى القاهرة، ومنهم من آثر الاستقرار بها، وكان منهم بالطبع طلاب العلم القادمون من "بلاد التكرور".

 

وكان موكب الحج المصري يستقطب أعدادًا كبيرة من شعوب إفريقيا للقدوم إلى القاهرة لمرافقة موكب الحج، ويرى الباحثُ أن "التكاررة" وهم سكان "بلاد التكرور" كانوا من أكثر الشعوب التي كانت تسكن الممالك الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى حرصًا على الاستقرار بالقاهرة مدة من الزمن، وذلك يبدو جليًا من خلال الجاليات التكرورية التي أقامت بالقاهرة.

 

وكانت تلك المدة تختلف حسب كل واحدٍ منهم، والغاية التي جاء من أجلها، فمن هؤلاء "التكاررة" من أتى مرافقًا لـ"موكب الحج" المصري الذي كان يبدأ من القاهرة، ومن ثم يذهب تحت إمرة "أمير الحج" إلى بلاد الحرمين الشريفين.

 

بينما كان البعضُ الآخر من شعب التكرور يأتي للقاهرة من أجل طلب العلم، وليأخذ العلوم الدينية والشرعية على أيدي كبار علماء مصر الذين يصفهم ابنُ خلدون بأنهم كواكب الدنيا. 

 

وكان من أهل التكرور من يُؤثر الإقامة بالقاهرة بعد ذلك، ومن ثم لم يعد لبلاده مرة أُخرى، وعلى هذا تكوّن بمرور الوقت مجتمعٌ غير قليل، أو لنقل "جاليةٌ" مُعتبرةٌ من أهل التكرور بمدينة القاهرة، وزاد اندماج "التكاررة" بأهل مصر لا سيما بالقاهرة التي آثرها أكثر أهل التكرور أكثر من غيرها من مدن مصر، ومن ثم كان منطقيًا أن يترك هؤلاء "التكاررة" تراثًا إفريقيًا إسلاميًا واضحًا بمدينة القاهرة، وقد كانت ولا تزال لهؤلاء "التكاررة" جوانبٌ من تُراثهم الإفريقي الأصيل شاهدةً عليهم، وعلى تأثيرهم في المجتمع المصري عبر الحقب المتعاقبة وحتى يومنا هذا، ومن ثم وجد بالقاهرة حيًا يحمل اسم "التكرور"، ومساجد، وكذا أضرحة لثُلةٍ من أعلام التكاررة الذين استقروا بالقاهرة.. إلخ. وقد تركز كثيرون من "التكرور" في الغالب في أحد أحياء القاهرة أكثر من غيره، وقد صار بذلك الحي "جاليةٌ تكرورية" غير قليلة، ولهذا صار هذا الحي بالقاهرة يُعرف بـ"حي التكاررة"، أو "حي التكرور"، وهو ذاتُ الحي الذي أضحى بعدئذ يُعرف باسم: "بولاق التكرور"، أو "بولاق الدكرور"، أو "الدكروري" حتى يومنا. 

 

وعن حي "التكاررة" بالقاهرة، يقول المقريزي: "ناحية بولاق التكرور، وهذه الناحية من جملة قرى الجيزة، كانت تُعرف بمنية بولاق، ثم عُرفت ببولاق التكرور". وتؤكد روايةُ المقريزي، وغيرها من روايات المصادر الأُخرى، انتساب هذا الحي، وتسميته نسبة لأحد "التكاررة" الذين كانوا قد استقروا بالقاهرة، وتحديدًا المنطقة التي عُرفت بعد ذلك بـ"بولاق التكرور"، وكان هذا الشيخ يُدعى: "أبا محمد يوسُف بن عبد الله التكروري"، وكان في الأصل من سكان "بلاد التكرور"، ثم قدم إلى مصر أيام الفاطمية (358-567ه)، ثم طاب المُقام للشيخ "التكروري" بالقاهرة، وآثر أن يُقيم بها، وألا يعود لبلاد "التكرور"، ثم حملت هذه المنطقة التي استقر بها، هو وغيره من "التكاررة" باسم بلادهم.

 

وسوف نُفيض في الحديث عن حياة الشيخ التكروري بعد ذلك خلال حديثنا عن علماء التكرور ممن أقاموا بالقاهرة، وكذلك في حديثنا عن مسجده، وضريحه. ومن جانبٍ آخر فقد انخرط الكثيرون من أهل "التكرور" بشتى مجالات الحياة في مصر، ويمكن القول بأنهم تمصروا، وأضحوا مصريين بمرور الزمن رغم أصولهم "التكرورية". 

 

وكان من أهل "التكرور" من انضم للخدمة في الجيش، ومن أبرز تلك النماذج التكرورية التي تمصرت قلبًا وقالبًا- إذا جاز لنا القول- شخص يُدعى باسم: "عنبر التكروري"، وكان يعيش أيام عددٍ من سلاطين المماليك، مثل: السلطان "جقمق" (1438-1453م)، والسلطان "الأشرف قايتباي" (1468-1498م). وترقى "عنبر التكروري" حتى صار مقدمًا في الجيش. وبرى الباحثُ أن "عنبر التكروري" كان جيلًا متأخرًا من "التكاررة" الذين استقروا بمصر، أي أن أجداده كانوا قد هاجروا إلى مصر، وعاشوا بها مدةً من الزمن، ثم ولد "عنبر" بعد ذلك بمصر لأسرة تكرورية الأصل، ولا نعلم لأي الأجيال التكرورية المهاجرة ينتسب، وتذكر المصادر أنه انضم للجيش المصري، وخدم به، ومن ثم أظهر براعة في خدمته، ثم ترقى في الدرجات العسكرية العليا، ورغم ذلك الامتزاج بين أهل التكرور والمصريين إلا أن "التكاررة" احتفظوا في ذات الوقت باسم "التكروري" تأكيدًا لأصولهم الإفريقية. 

 

وربطت العديدُ من الوشائج العلمية بين علماء التكرور والعلماء المصريين، وكان علماءُ "التكرور" يحرصون على التواصل العلمي مع علماء مصر الذين ذاع صيتهم في ربوع العالم الإسلامي إبان "العصر الوسيط". وتتحدث المصادرُ عن عدد من علماء التكرور الذين نالوا العلم بمصر، كما أن عددًا منهم كان يحرص على التواصل مع كبار العلماء بمصر، فكان علماءُ التكرور يرسلون بما يعنُ لهم من تساؤلات فقهية وشرعية لعلماء مصر حتى يفتوهم في تلك الأمور، وذلك لثقة علماء التكرور بالمصريين، ومن المعروف أن السلطان "أسكيا محمد" (899-935ه) "ملك التكرور" كان قد أراد من الإمام "السيوطي" (ت: 911ه)، وكان أشهر علماء مصر في ذلك الوقت أن ينشر علمه في "بلاد التكرور"، لا سيما أن كتب "السيوطي" ومصنفاته كانت رائجةً في بلاده، وكان علماء التكرور يقومون بتدريس كتبه، ومنهم من قام بعمل شروح لكتب "السيوطي"، ومن ثم كان من الطبيعي أن يقوم علماء التكرور الكبار بمراسلة السيوطي، ومن ذلك قيام الفقيه "أحمد بابا التنبكتي" بعمل شرح لـ"ألفية السيوطي". 

 

كما يتحدث المؤرخُ السعدي (ت: سنة 1655م)، صاحب "تاريخ السودان"، عن أحد علماء التكرور واسمه "العاقب بن عبد الله الأنصمني" بأنه أخذ العلم عن الإمام السيوطي. وكان علماء التكرور يبعثون إلى السيوطي بالأسئلة الفقهية وتضم أمورًا شرعية، وكذلك كان بها بعض الفتاوى، وليسألوا عما شق عليهم من أمور الدين. وقد صنف السيوطي في ذلك رسالة شهيرة، ضمنها أجوبته عن تساؤلات علماء التكرور، ودعاها باسم: "فَتحُ المَطلَب المَبرور، وبرد الكَبد المَحرور، في الجوابِ عن الأسئلةِ الواردةِ من التَكرور". وفي موضع آخر من كتاب "السيوطي" عن هذه الرسالة الفقهية التي أرسلها لعلماء التكرور، وقد جعلها باسم: "مطلب الجواب بفصل الخطاب"، وكانت تلك الرسالة ردًا من "السيوطي" على أسئلة الفقيه التكروري "شمس الدين بن محمد اللمتوني".

 

ويُفهم من كلام السيوطي لهذا الفقيه (التكروري) أنه فيما يبدو يعرفه معرفةً شخصية، وهو ما يظهر بشكلٍ واضح من صيغة الكلام بين كليهما، وكذا مقدار الود الذي يحمله له "السيوطي"، ونعوته، ولعل من ذلك قوله له بصفة الحبيب، والأخ، وكذلك وصفه له بالصلاح، وكذلك تقدير "السيوطي" لعلم الفقيه التكروري، حيث يقول في وصفه: "الشيخ، العالم، الصالح.."، ويرى الباحثُ أن ذلك يُشير فيما يبدو إلى أن العلاقة بين العالمين المصري والتكروري كانت قد زادت ارتباطًا بعد أن زار "السيوطي" بلاد التكرور، وهو ما يذكره "السيوطي" في ترجمته التي أوردها في كتاب "حُسن المُحاضرة". ويبدو أنه كان لهذه الزيارة العلمية التي قام بها "السيوطي" إلى بلاد "التكرور" صدى كبيرًا بين علماء مصر، فشجعت الكثيرين منهم على الذهاب إلى تلك المملكة الإفريقية. 

 

وتعج كتب التاريخ التي دونها مؤرخو التكرور ذاتها بأسماء كبار العلماء في بلادهم الذين أقاموا بالقاهرة، وجاءوا طلبًا للعلم، وبالطبع كان الكثيرُ منهم يستفيد من رحلة الحج، وانتظار خروج "موكب الحج" من القاهرة للتعلم على أيدي علماء مصر. ومن علماء التكرور الذين زاروا القاهرة الفقيه "أحمد بن عمر أقيت" (ت: 942ه)، وهو من كبار علماء التكرور، وشغل منصب "قاضي تنبكت" (تمبكتو)، وكذلك "قاضي ولاتة"، وهي من مدن التكرور (غرب إفريقيا) المعروفة، وينتسبُ هذا الفقيه لـ"أسرة أقيت" العلمية المشهورة، والتي أنجبت أشهر فقهاء وعلماء "تنبكت". وقد حج الفقيه التكروري سنة 890ه، وأقام بمدينة القاهرة مدة، ولقي بها الإمام "السيوطي"، و"الأزهري" النحوي المعروف، وغيرهما من كبار العلماء بمصر. 

 

وكان أمرًا منطقيًا أن يستقر عددٌ من علماء التكرور بالقاهرة استقرارًا تامًا بمرور الزمن، وأن يبقوا بها حتى موتهم، وقد نال عددٌ منهم صيتًا كبيرًا. وكان من أبرزهم الشيخ "يوسف التكروري" الذي ذكرنا نتفًا من شأنه، وهو الذي حمل "حي التكرور" بالقاهرة اسمه حتى يومنا، وكان هذا الشيخ قد ذاعت شهرته، ونال مكانةً دينيةً واسعة بين عوام الناس على الأخص. وكان الشيخ "التكروري" ممن عُرف بين الناس بالتقوى، والصلاح، وهو ما يبدو جليًا في ثنايا الروايات القليلة التي تحدثت عنه. ويعتبر تقي الدين المقريزي، و"علي باشا مبارك" من أكثر المؤرخين الذين تحدثوا عن ترجمته. وكان الشيخُ "التكروري" يعيشُ بالقاهرة في عصر الفاطميين، وتحديدًا خلال فترة حكم "العزيز بالله" (نزار) (365-386ه)، وهو ابن المعز لدين الله الفاطمي (365– 386ه). وعُرف الشيخ "التكروري" بأنه من أصحاب الكرامات، ومما ورد في المصادر التاريخية عن كراماته، يقول المقريزي: "وكان يُعتقد فيه (أي الشيخ) الخيرُ، وجُربت بركةُ دعائه، وحُكيت عنه كراماتٌ كثيرة". 

 

ومما حكي عن الشيخ التكروري، وكراماته بالقاهرة: أن امرأةً خرجت من مدينة مصر (أي: القاهرة) تريدُ البحر (يقصد: النيل) فأخذ السودانُ (وهم أهل التكرور) ابنها، وساروا به في مركب، وفتحوا القُلع فجرت السفينة، عندها تعلقت المرأة بالشيخ "التكروري"، وأخذت تستغيثُ به، فخرج لها ووقف على شاطىء النيل، ثم دعا الله سبحانه، فسكنت الريحُ، ووقفت السفينةُ عن السير، فنادى الشيخ من في المركب يطلب الصبي، فدفعوه إليه، ثم ناول الشيخُ الطفل لأمه. كما سكن جماعة أخرى من علماء التكرور في بعض المدن والأقاليم المصرية الأخرى، ولم تكن إقامتهم حكرًا على القاهرة، وبولاق التكروري وحدهما، حيث تتحدث بعض المصادر عن شيوخ آخرين من "التكاررة" الذين عاشوا بمصر، ولعل منهم الشيخ: "فاتح بن عثمان التكروري"، وهو الذي يلقب بـ"الأسمر" إشارة إلى أنه كان من أصل إفريقي، وأنه جاء من مراكش بالمغرب الأقصى، ثم استقر به الحال في "دمياط" بعد ذلك.

جامعُ وضريحُ الشيخ التكروري بالقاهرة:

 لما مات الشيخُ "التكروري" بالقاهرة أقام له الناسُ مسجدًا يُعرف باسمه في ذات الموضع الذي كان قد دُفن فيه هذا الشيخ عرفانًا منهم بمكانته الدينية والروحية، ومن ثم أُطلق عليه اسم "جامع التكروري"، وأطلق الناس على المنطقة اسم "بولاق التكروري"، وعن هذا المسجد يقول المقريزي: "هذا الجامعُ في ناحية بولاق التكروري"، ومعلوم أنه لما مات "الشيخ التكروري" بُني على قبره قُبة، وعمل بجانبه جامع، جدده، ووسعه الأمير "محسن الشهابي" مُقدم المماليك سنة 743ه، ثم إن النيل مال على ناحية "بولاق" فيما بعد سنة 790ه، وأخذ منها قطعة عظيمة كانت كلها مساكن، فخاف أهل "حي التكروري" أن يتهدم ضريح الشيخ التكروري، وكذلك الجامع الذي يحمل اسمه، نظرًا لقربهما من مجرى مياه النهر، فنقل الناس الضريح والجامع لداخل حي التكروري، ويذكر علي مبارك أن الجامع والضريح اللذين يحملان اسم الشيخ التكروري كانا باقيين حتى أيامه، والمعروف أنه توفي أواخر القرن 19م (في سنة 1893م). وكان قد قام بتجديد جامع الشيخ "التكروري" السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، وكانت توجد قبة في حديقة الحريم بسراي "بولاق التكرور" للأمير ابن الأمير طوسون. ولا ريب أن التكاررة الذين استقروا بالقاهرة بمرور الزمن اختلطوا، واندمجوا في حياة المصريين، حتى يمكن القول بأنهم تمصروا تمامًا. ويرى الباحثُ بدوره أن أعدادًا من أهل التكرور آثروا البقاء، والاستقرار في "حي التكرور" بسبب وجود مسجد وضريح الشيخ التكروري. 

 

 

الطلاب الأفارقة بالأزهر الشريف

 

 

حكاية أروقة الطلاب الأفارقة بالأزهر الشريف

 

عَرفت مدينة القاهرة نظام "الحلقات الدراسية"، أو ما يعرف باسم "الأروقة" الدراسية بعد ذلك، منذ حقبة القرن الأول الهجري، ومع الفتح العربي لأرض مصر في حوالي سنة 21ه/641م. وقد تعددت الجالياتُ القادمة من الممالك الإفريقية جنوب الصحراء عامة للقاهرة، لا سيما أولئك القادمين من "بلاد التكرور" بصفةٍ خاصة. 

 

 

المدرسة الكانمية (الإفريقية) بالقاهرة:

لقد استقرت جماعات من الجاليات الإفريقية ومنها أهل التكرور، وسكان بلاد الكانم والبرنو (في تشاد حاليا) استقرت بمدينة القاهرة منذ وقتٍ بعيد، وقبل حوالي قرنين من زمان السلطان "منسا موسى" (712-738ه) حاكم مملكة مالي الإسلامية في غرب إفريقيا، حيث كانت تعيشُ جاليةٌ إفريقية وتكرورية كبيرة في القاهرة منذ أيام الدولة الفاطمية (358-567ه)، وكذلك مرورًا بعصر الدولة الأيوبية (567-648ه). وفي الغالب كان أكثرهم من طلاب العلم التكاررة، ولهذا أقام أهل التكرور، وكانوا أكثرهم فيما يقال من حكام بلاد الكانم (تشاد)، مدرسة لهم خاصة في منتصف القرن 7ه/13م. وكانت هذه "المدرسة التكرورية" تُعرف باسم: "مدرسة ابن رشيق"، وقد كانت الغاية العلمية من إقامتها، بجانب جمع طلاب بلاد "التكرور" معًا، وكذلك تدريس الفقه المالكي لهم، وهو المذهب الذي انتشر في مصر، وكذلك في بلاد التكرور، وطُلب من واحد من كبار العلماء بمصر في ذلك الوقت، واسمه "ابن رشيق" ليقوم بالتدريس في مدرسة التكرور للطلاب التكرور بالقاهرة. 

 

ويقول المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت: 845ه) عن هذه المدرسة الإفريقية القديمة بالقاهرة: "هذه المدرسة للمالكية، وهي بخط "حمام الريش" من مدينة القاهرة، كان الكانم من طوائف التكرور لما وصلوا إلى مصر في سنة بضع وأربعين وستمائة، قاصدين الحج، دفعوا للقاضي "علم الدين ابن رشيق" مالًا بناها به، ودرس بها، فعُرفت به، وصار لها في "بلاد التكرور" سُمعةً عظيمةً، وكانوا يبعثون إليها في غالب السنين المال". 

 

وعلى أي حال فقد لعب جامع "الأزهرُ الشريف" دورًا علميًا مهمًا في جذب الكثيرين من الطلاب الأفارقة للقدوم لأرض مصر، لما له من مكانة علمية ودينية كبرى بين سائر المسلمين في العالم. وقد أخذت الأعدادُ الوافدة من الممالك والإمارات الإفريقية القديمة تزداد لطلب العلم في الأزهر الشريف، ومن ثم صارت هناك حاجةٌ ملحةٌ لأن يكون لكل جالية إفريقية كانت قد استقرت بالقاهرة "رواقٌ" بالأزهر الشريف، وقد ارتبط هذا الرواق بأهل تلك الجالية من العلماء، وطلبة العلم. وكلمة "الرواق" يُقصد بها لغةً أنها: "المسافة بين كل عمودين من أعمدة المسجد"، وجمعها: "الأروقة". 

 

ومن المعروف أن أول درس ألقي بـ"الأزهر الشريف يرجع لسنة 365ه، ثم أقيمت دار لسكن الفقهاء والعلماء بجوار الأزهر، ووضعت لهم الرواتب لنفقاتهم. أما عن البداية الأولى لـ"أروقة الأزهر" فتقول الدكتورة "سعاد ماهر": "وكان الأزهرُ منذ بدأت الدراسة فيه مفتوح الباب لكل مسلم، يقصده الطلابُ من مشارق الأرض ومغاربها.. يتلقون العلم، وتجرى عليهم الأرزاق، وتقيم كلُ جماعة منهم في مكانٍ خاص بها، وهذا هو نظام الأروقة الشهير الذي بدأ بالأزهر منذ العصر الفاطمي". ويرى البعض أن البدايات الأولى لـ"نظام الأروقة" ترجع لأيام الفاطميين (358-567ه)، وتحديدًا إبان حُكم الخليفة الفاطمي "الحافظ لدين الله". 

 

بينما يؤكد آخرون أن نظام "الأروقة" تم العمل به بشكلٍ واضح أيام "دولة المماليك" (648-923ه)، وقد استمر نظام الأروقة أيام الحكم التركي، وكذلك خلال حكم أسرة محمد علي (1805-1952م)، وإلى سنة 1954م، حيث صدر قرارٌ بإقامة "مدينة البعوث الإسلامية" ليُقيم فيها طلاب الأزهر الأفارقة، وغيرهم بدلًا من نظام الأروقة التقليدي، لا سيما مع كثرة وفود الطلاب الأجانب إلى مصر، سواء الأفارقة منهم، أو غيرهم من الجنسيات الأخرى. 

 

وقد كانت "جالية التكرور" من أهم الجاليات الإفريقية التي كان لها رواق خاص بها بالأزهر الشريف، وكان يُعرف بـ"رواق التكرور"، أو "رواق التكارنة" (أو التكاررة). وكان "شيخ الرواق" يجب أن يكون من "بلاد التكرور"، وكان يجد "رواق التكرور" في طرف المقصورة الجديدة فوق الإيوان، شمال الداخل من "باب الصعايدة". و"رواق التكرور" كان عبارة عن مبنى أرضي مقام على محل فسيح، وكان يقع أعلاه جزء من "رواق الشوام". وبلغت "الجراية" المقدمة إلى طلاب التكرور المقيمين داخل هذا الرواق، في بعض الأحيان" 33 رغيفًا، وكانت هذه الجراية تقدم لهم كل يومين، وكان طلبة التكرور يتقاضون راتبًا لمساعدتهم على المعيشة وطلب العلم غُرة كل شهر هجري. ويُشير البعضُ إلى أن "رواق التكاررة" كان مخصصًا لكل من: طلاب التكرور، وكذلك الطلاب القادمين من إقليم "واداي" (تشاد)، وكذلك الطلاب القادمين من إقليم دارفور، وسنار. ولعل في ذلك خلطٌ واضح، لأن طلاب سنار كان لهم رواق خاص بهم، وكان يحمل اسم "رواق سنار" نسبة لمدينة سنار عاصمة سلطنة الفونج الإسلامية التي تأسست في سودان وادي النيل (جمهورية السودان الحاليا)، وكذلك كان طلاب واداي، وهو من أقاليم تشاد، ومن ثم فمن الراجح أنهم كانوا ضمن "رواق الكانم والبرنو". كما كان يوجد رواق الزيلع، أو رواق الجبرتية للطلاب القادمين من بلاد الزيلع، وهي بلاد تأسست على ساحل البحر الأحمر بالقرب من بلاد الحبشة، وموقعها الآن في آراضي دولة إريتريافي شرق إفريقيا.

 

وعلى أي حال فقد استفاد الطلاب الأفارقة إبان قدومهم لمصر مع موكب الحج القادم بالإقامة بالقاهرة انتظارًا لخروج موكب الحج، ولهذا كانوا يذهبون لأروقة الأزهر للدراسة، وطلب على أيدي علمائه الكبار، وذوي المكانة، والشهرة الواسعة. ومن جانب آخر تذكر بعض المصادر التاريخية أن عدد طلاب الأروقة بالأزهر الشريف في القرن التاسع الهجري كان قد بلغ حوالي 750 طالبا من الأفارقة، والمغاربة، وكذلك طلاب العجم، والمصريين.  

 

كلية الآداب - الجامعة الإسلامية بولاية مينيسوتا

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز